السينما تنتحل نفسها، تعيد نسخ ذاتها، تعيد إنتاج كلاسيكياتها، وتعيد تفعيل أساطيرها الأصلية
في دراسته الشهيرة «الترميز والمحاكاة Simulacra And Simulation» يتناول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار تصوراته عن خلق الصور والرموز، محاكاة الواقع وتراكم تمثيلاته البصرية، يستعين بأمثلة من الأيقونات الدينية التي تمثل آلهة وشخصيات مقدسة لا مرجع بصرياً لها، يتأمل تطور شكل المحاكاة من العصور الوسطى حتى وقت كتابته، حتى الوصول لما يسميه الواقعية الفائقة Hyperreal، فالمحاكاة نفسها أصبحت هي الحقيقة بل فوق الحقيقة، ولم يعد من الضروري إيجاد مرجعية للمحاكاة فهي نسخة دون أصل، وبخاصة في عالم منغمس بشكل كامل في الصور والرموز البديلة، التي لم تعد تستند إلى الواقع بل تعيد إنتاج صور أخرى.
تحتل السينما مساحة كبيرة في دراسة بورديار فهي فن معتمد على المحاكاة، محاكاة الواقع ومحاكاة نفسها، يرى بودريار أن السينما مهووسة بذاتها، تعيد إنتاج مرجعيتها الخاصة، وأساطيرها الذاتية، ويعتبر أنها بشكلها المعاصر خاصة مع الاهتمام المتزايد بخلق عوالم سينمائية تاريخية أو متناولة لحقب أقدم، فن مفتون بنفسه، فهي تبحث عن عنصر مفقود، تماماً مثلما نبحث عن واقع مفقود تحت ملايين الصور المحاكية له.
كتبت تلك الدراسة في عام 1981، حيث حلل بودريار أفلاماً متناولة لفترات أقدم من زمنها مثل باري ليندون والقيامة الآن، وحالياً في عام 2024 لا تزال السينما مفتونة بنفسها ومرجعياتها الخاصة، يمكن من خلال تصور بودريار قراءة فيلمين صادرين حديثاً هما: «الليلة مع الشيطان Late Night With The Devil» و«رأيت ضوء التلفزيون I Saw The TV Glow».
يتناول كل من: «الليلة مع الشيطان» الذي أخرجه وكتبه كولين وكاميرون كارينز، و«رأيت ضوء التلفزيون» من كتابة وإخراج جين شونبرون، حقباً تاريخية ماضية هي بالترتيب السبعينيات والتسعينيات، ويستخدمان التلفزيون باعتباره مجازاً ومحركاً أساسياً لأحداث ما ورائية، في صيغة نوعية يمكن وصفها بالرعب النفسي، باستدعاء التلفزيون بوصفه وسيطاً بصرياً ومرجعية لأساليب الفيلمين، يمكن تفعيل حالة من النوستالجيا واستدعاء جماليات فترة مغايرة للتي نعيشها الآن، يتبنى الفيلمان جماليات التلفزيون نفسه، العيوب التي تظهر في العروض التلفزيونية، التشويش الذي يصيب شرائط الفيديو كما أن كليهما يصيغ برامج تلفزيونية داخل سياق الأحداث، فتصبح أفلاماً بداخلها وسائط أخرى مصنوعة، ومستندة مرجعيتها إلى برامج وأفلام أخرى.
تدور أحداث «الليلة مع الشيطان Late Night With The Devil» حول برنامج حواري ليلي «بوم الليل مع جاك ديلروي»، جاك ديلروي (ديفد داستمالشان) مقدم برامج كاريزماتي ذو شعبية، لكنه لا يتفوق على جون كارسون صاحب أعلى مشاهدات في فئة البرامج الليلية، يصيغ الفيلم من بدايته محاكاة لوثائقي من السبعينيات يتناول تكهنات بتورط ديلروي مع جماعة شيطانية، تسببت في شهرته ويلجأ لها في محاولة لرفع مشاهداته وتقييماته، فيتوصل لصناعة حلقة تعرض المس الشيطاني والتخاطر مع الأرواح وكل ما هو محبب للجمهور الأمريكي على الهواء مباشرة.
مشهد من «Late Night With The Devil»
يدور «الليلة مع الشيطان» داخل عوالم التلفزيون، فهو في ذاته برنامج تلفزيوني، يعيد إنتاج شكل برامج السبعينيات من أزياء وديكورات وموسيقى، كما أنه يسترجع الفترة بصرياً عن طريق الوسيط نفسه بتصوير البرنامج بإحداثيات شاشة مشابهة للفترة، وفيلم خام يستدعي ألوان برامج السبعينيات التلفزيونية ودرجاتها الباهتة والحيوية في الوقت نفسه.
يستدعي «الليلة مع الشيطان» ماضياً ليس مبنياً على الماضي نفسه بل على تصورات أخرى عنه، سينمائية وتلفزيونية وفوتوغرافية، تصبح تجربة مشاهدته أشبه بمحاكاة Simulation لبرنامج مفقود مضت عليه سنوات وتم اكتشافه الآن. لكنه يقطع تلك المحاكاة الحصرية بمشاهد خلف الكواليس تظهر قلق ديلروي وتضع البرنامج في سياق قصصي أوسع من المحاكاة المجردة، كما يهدم وهم المشاهدة نفسه بالتواءة حبكة تبدل وجهة نظر الفيلم الرئيسية.
مشهد من فيلم «Late Night With The Devil»
مشهد من فيلم «Network»
يعمل «الليلة مع الشيطان» باعتباره انعكاساً ونقداً مجتمعياً بأثر رجعي لثقافة الشهرة والتلفزيون نفسه، خاصة تلفزيون الواقع المتمثل في البرامج الحوارية، يستخدم الفيلم صفقات فاوستية و نظرة قاتمة للشهرة باعتبارها عقداً شيطانياً يتخلى به المرء عن كل شيء حتى أقرب وأحب الناس إليه، لكنه كذلك يستدعي أفلاماً أخرى منها فيلم «Network شبكة تلفزيونية» (1976) لسيدني لوميت، من ضمن مجموعة كبيرة من المرجعيات البصرية والسينمائية. استخدم «شبكة تلفزيونية» صيغة واقعية لنقد التلفزيون وبرامج الحوار الليلية، كما أعاد إنتاج شكل برامج التلفزيون وقت عرضه، وهو ما فعله «الليلة مع الشيطان» بشكل استعادي بعد ذلك.
يتناول «Network» شبكة إخبارية تستخدم أحد مقدمي برامجها لرفع المشاهدات، وتطوع انهياره العصبي على الهواء لصالحها، يستدعي «الليلة مع الشيطان» نبوءات فيلم «شبكة تلفزيونية»، حيث يمكن للبرامج الوصول لأكثر الوسائل تطرفاً لأجل التقييمات والمشاهدات العالية والثروة، بما يمكن أن يصل للقتل على الهواء مباشرة، نظر لفيلم لوميت باعتباره تنبؤاً بالمستقبل، بشكل الإعلام والوسائط المستقبلية التي نعيشها الآن، لكن «الليلة مع الشيطان» يفعل العكس تقريباً، فهو لا ينظر بشكل ساخر إلى مستقبل محتمل، بل ينظر بأسى لماض انتهى ويقترح له رؤية سوداوية بديلة.
«التلفزيون هو الحقيقة، والحقيقة أقل من التلفزيون»
في إطار مشابه تدور أحداث «رأيت ضوء التلفزيون I Saw The TV Glow» حول صديقين أوين (جاستيس سميث) ومادي (بريجيت لاندي بين) وبرنامج تلفزيوني، مسلسل خيالي بعنوان «الوردي المعتم The Pink Opaque» يتناول قصة فتاتين ذوات قوة خارقة، لكن الفيلم نفسه لا يجعل من المسلسل محتواه الرئيسي بل هو عمل مصنوع على هيئة الأعمال المعروضة في التسعينيات، بخطط لونية مشابهة وطبيعة مجازية واضحة، يساعد المسلسل أبطال الفيلم في الهروب من واقعهم وربما يكون التلفزيون هو واقعهم، يتلاعب «رأيت الضوء» بمفاهيم التلفزيون أو الصورة والواقع والعلاقة بينهما، خالقاً رابطاً إضافياً مع كتابات بودريار، ومفهوم الواقعية الفائقة، حيث يصبح عالم التلفزيون أكثر حقيقة من عالم الشخصيات الذي هو بدوره عالم سينمائي نشاهده نحن.
مشهد من فيلم «I Saw The TV Glow»
يخلق مسلسل الوردي المعتم رابطاً بين أوين طفلاً ومادي التي تكبره بعامين يقضي معهما الأعوام ويشاهدهما يكبران، ترى مادي ذاتها في إحدى الشخصيات، بل ترى ذاتها في عالم المسلسل نفسه، يختلط عليها الواقع بالخيال، ومع الوقت ترى أنها وأوين لا ينتميان لعالمهما كذلك بل لعالم الوردي المعتم، يحيل «رأيت الضوء» فكرة العالم الحقيقي والخيالي للهوية نفسها، ويستخدم مجازاً واضحاً ويظهره بصرياً لاضطراب الهوية الجنسية، تعيش شخصية أوين في جسد ليس جسدها، حقيقة في انتظار التحرر، يصبح المسلسل هو العالم الأكثر حقيقة: عالم الهوية الجنسية المرجوة التي لم تتحقق بعد، بينما العالم الواقعي مجرد قشرة مزيفة.
يتعامل الفيلم مع المسلسل التلفزيوني ليس باعتباره منتجاً شيطانياً يغسل العقول مثل «الليلة مع الشيطان»، لكن باعتباره منفذاً للتعبير عن الذات، لكنه مع ذلك ذو قوة تدميرية يمكنها قلب الحياة رأساً على عقب.
«رأيت ضوء التلفزيون» هو فيلم عن الهوية، ولكنه كذلك فيلم عن التلفزيون، عن الشاشة والسرديات التخيلية والانغماس التام داخلها، على المستوى الإيجابي يصبح ذلك الانغماس طريقة للتعرف على الذات، لملاحظة شبيه تعكسه الشاشة الناظرة إلينا، وعلى المستوى السلبي فإن ذلك الانغماس هو استنزاف تام، يبتلع المشاهد في دوامة من الهوس، والرغبة في استبدال الحياة بأخرى أكثر ألفة أو حتى فقدان القدرة على تمييز الحقيقة من الخيال، يستخدم رأيت الضوء جماليات الشحنات التلفزيونية وإضاءة التلفزيون الزرقاء لخلق عالم يقع بين حقيقتين في الوقت نفسه.
مشهد من «I Saw The TV Glow»
مشهد من Videodrome» 1983»
يستعير الفيلم من فيلم آخر وهو «فيديودروم Videodrome 1983» لديفد كروننبرج، الذي تناول التلفزيون في وقته بوصفه قوة تستخدم العنف والرغبات الغريزية، ويمكنها أن تصنع هيئة بشري جديد، جسداً هجيناً بين موجات التلفزيون والبيولوجيا الإنسانية، مثل كروننبرج فإن فيلم شونبرون يجعل التلفزيون جزءاً من هوية الشخصيات لكن ليس بالشكل الجروتسكي لكروننبرج بل بشكل أكثر تنميقاً وملائمة للذوق العام المعاصر، لكنها تستعير مشاهد أيقونية من «فيديودروم»، مثل إدخال فرد رأسه داخل الشاشة مموهاً الخط الفاصل بين العالمين، أو أن يشق شخص صدره ليجد محتوى تلفزيونياً داخل جسده.
أتى نقد التلفزيون في «فيديودروم» آنياً وعاجلاً فهو الوسيط الرئيسي الحالي لوقت صناعة الفيلم، فحوى اقتباسات مثل التلفزيون هو الحقيقة، والحقيقة أقل من التلفزيون، أو أن التلفزيون هو شبكية عين العقل، بينما يتناول «رأيت ضوء التلفزيون» وكذلك «الليلة مع الشيطان» نقداً استعادياً، الغرض منه النظر على وسائط أكثر حداثة من خلال وسيط يحتضر.
في واقع معاصر مغمور بأشكال التحفيز البصري لم يعد التلفزيون محطاً للهجوم لخطورته، ولا يملك الإعلام التلفزيوني التأثير نفسه الذي امتلكه منذ دخوله إلى المنازل، فقد أصبح الآن وسيطاً إعلامياً ثانوياً، في إطار الشكل التكنولوجي الحالي للحياة أصبح يمكن تحييد التلفزيون بشكل كامل، لكنه يظل مجازاً جارياً ومستمراً وبخاصة في ما يخص التضليل السياسي، فهو وسيط موجه لفئات عمرية ما زالت ترى به منفذاً للحقيقة أو على الأقل الحقيقة المحافظة الموجهة مسبقاً.